إنّ كلّ موادّ التعليم، مثل: التاريخ، والأدب، والجغرافيا، وعلم الأحياء، والكيمياء، والفيزياء، والرياضيّات، جزء من نظام منطقيّ مرتّب الأجزاء، وإن كنّا في كثير من الأحيان لا نفكّر بها بهذه الطريقة؛ فالمؤرّخ يدرس فترةً زمنية ويبتكر "قصّة" يضع الأحداث فيها في أنماط ذات معنى، وندرس في الأدب فترات زمنيّة مصاحبة لرؤاها، وقيمها، ووسائطها التعبيريّة المتميّزة بها؛ فإحدى الفترات "رومانسيّة" وأخرى "كلاسيكيّة"، وثالثة "واقعيّة"، وهكذا. أو ندرس رؤية المؤلّف للناس والعالم، ونطوّر في الجغرافيا نُظمًا لتقسيم سطح الأرض إلى قارّات، وبلدان، ومناخات، ونطوّر طرقًا منظّمة منطقيّة للنظر إلى سطح الأرض. وفي الجيولوجيا، نستخدم نظامًا لترتيب الوقت إلى فترات زمنية جيولوجية، ونربط الصفات الفيزيائية والكيميائية للأشياء مع تلك الفترات. ونطوّر في علم الأحياء نُظمًا لفهم الأشكال المتعدّدة من الكائنات الحيّة. ونطوّر في الرياضيّات، نظم الحساب، والهندسة، والجبر، وحساب التفاضل والتكامل، للتعامل مع الأبعاد الكمّيّة للعالم.
في كلّ مكان يوجد نُظم ملازمة لموضوعات التعلّم، وشبكات لربط أجزاء النظام المنطقية ببعضها من أجل غرض محدّد. والتفكير الناقد - بما فيه من منظومة تساعد على التّوجيه - هو المجموعة المُثلى من الأدوات لتولّي قيادة النظم المتأصّلة في هذه الموضوعات، وهو كامل ومنضبط فقط إذا فهمنا ما هو وكيفيّة استخدامه؛ لكن معظم الطلاب لسوء الحظّ، لم يتعرّفوا قطّ إلى التفكير الناقد، وبالتالي فإنّهم غير قادرين على استخدامه بصورة منهجيّة لتوجيه تعليمهم وتقويته، فمثل هؤلاء الطلاب يحاولون تعلّم الحقائق المنهجيّة، عن طريق حفظ عشوائيّ لأجزاء النظام كما لو أنّه لا علاقة فيما بين تلك الأجزاء. وكمثال على ذلك نقدم تاليًا لما يقوله طالبان يتحدّثان عن دراسة التاريخ:
سلمى: أنا لا أحبّ التاريخ كثيرًا، إذ يحوي كمًّا كبيرًا من المعلومات التي يتوجّب حفظها وتذكّرها. وهي تتحدّث عن الأزمنة القديمة، مع الكثير من التواريخ عن الحروب وعن أشخاص يقومون بأشياء لم نعد نقوم بها في وقتنا الحاضر، فنحن نتعلّم عن الرؤساء والملوك وما فعلوه، وعن أمور حدثت. فالتاريخ إذن هو كلّ شيء عن الماضي، إنّه مملّ، وأنا لا استعمله أبدًا، كيف يمكنني ذلك؟ والأمور تبدو مختلفة الآن؟
ليلى: إنّنا ندرس التاريخ بطريقة مختلفة في صفّ المعلمة ذكاء. هل تعلمين أنّنا جميعًا جزءٌ من هذا التاريخ؟ على سبيل المثال: أنا أتذكّر تفاصيل حياتي منذ الصغر كنوع من القصّة التي أحكيها لنفسي، وهكذا أتذكّر الأشياء، أتعرّف إلى الأمور. فكّري بالأمر، فعندما تتحدّثين عن نفسك، تكونين مثل مؤرّخ يحاول مساعدة الناس على معرفتك، وكلّ منّا مهتمّ بتاريخه الخاصّ، وبتاريخ الشعب الذي يعرفه، ونحن في صف المعلمة ذكاء نتحدّث عن الكيفيّة التي يجمع بها كاتب التاريخ القصّة ويضعها.
علينا أيضًا أن ننظر إلى الطريقة التي يُمكن بها أن نقصّ القصّة بطرق مختلفة، أعني إنّ ما نقرأه ما هو إلا جزء ضئيل ممّا يعرفه الكاتب، وما يعرفه الكاتب ما هو إلا جزء ضئيل ممّا حدث فعلا؛ لذا يجب أن ننظر إلى القصّة من وجهات نظر مختلفة، وإلا لن يكون لدينا على الأرجح فرصة لمعرفة ما حدث بالفعل. فنحن نتعلّم التمييز بين "الحقائق" وكيف يختار مختلف النّاس الوقائع ويفسرّونها وفقًا لمصالحهم الخاصّة. كما أنّنا نحاول ملاحظة ما تبقّى من قصص التاريخ التي نقرؤها. وتقول معلمتنا ذكاء، نحن نتعلّم أن نفكّر مثلما يفعل كُتَّاب التاريخ، ونواجه المشكلات التي يواجهونها. وأعتقد أنّ من المتعة محاولة معرفة التاريخ، وكيف تُروى قصّة بروايتها الفعليّة الصّادقة، وكيف تُروى حينما يحوّرها النّاس لجعل أنفسهم خيّرين.
الملاحظات
تضع ليلى في ردود أفعالها تجاه التاريخ، نموذجًا للتمييز بين الطريقة التقليدية التي تُدرّس بها الموضوعات (كالكثير من الأشياء التي ينبغي تذكّرها للاختبار)، والطريقة التي ينبغي أن تُدرّس بها (باعتبارها وسيلة لمعرفة الأمور). لن يدرك الطالب التقليديّ الرؤية الحقيقيّة للموضوع، وبالتالي لن ينقل ما تعلّمه إلى العالم "الحقيقي". ومن خلال تدريس التاريخ بطريقة ناقدة، يستطيع الطلاب نقل ما تعلّموه بسهولة إلى حياتهم الواقعيّة.
لا تقتصر أهمّيّة التفكير الناقد على المدرسة فقط، لكنها تمتدّ إلى عالم ما بعد المدرسة أيضًا، فإن كنّا ندرس كما ينبغي، فلن يقتصر تطبيق الطلاب للتفكير الناقد الفعّال على قرائتهم أو كتابتهم أو على موضوع التعلّم فحسب، بل سيبدؤون بتطبيق ذلك في حياتهم اليوميّة. وتكون النتيجة الرائعة أنّهم لن يفكّروا من الناحية التاريخيّة بما هو في منهاج التاريخ المدرسيّ، بل سيبدؤون التفكير بشكل أفضل بالقضايا التاريخيّة في حياتهم اليوميّة، كما تفعل ليلى. وكذلك الحال في باقي الموادّ التعليميّة، إذ لن يفكر الطلاب بطريقة علميّة في منهاج العلوم المدرسيّ فقط، بل سيبدؤون بالتفكير العلميّ عن المسائل العلميّة في حياتهم اليوميّة، كما أنّهم لن يقتصروا على سماع المبادئ الأخلاقيّة عند الحديث عن الشخصيّات في قصص الأدب في الصفّ، بل سيبدؤون باستخدام التّفكير الأخلاقيّ عند التعامل مع القضايا الأخلاقيّة في حياتهم، وكذلك الحال مع باقي الموادّ.
في الواقع، إذا أدّينا عملنا بشكل صحيح، فإنّ الطلاب سيبدؤون باكتشاف أنّ جميع أنواع التفكير التي يتعلّمونها في المدارس لها تطبيق في العالم "الحقيقيّ"، ولن يقصروا الحديث على قيمة التفكير المنطقيّ في المدرسة، بل سيبدؤون بالاكتشاف الفعليّ لكيفيّة القيام به، وكيفيّة جعل ذلك واقعيًّا وفاعلاً لتطبيق المعايير العقليّة الخاصّة به، ونقلها إلى تفكيرهم في كلّ مجال تقريبًا من سياق حياتهم. والنتيجة هي أنّ الطلاب، ولأول مرّة في حياتهم، سيبدؤون بتقويم تفكيرهم، وبشكل منضبط وموضوعيّ ومتزايد. لننظر في ثلاثة أمثلة من طالبات يبدأن باكتشاف قيمة تطبيق المعايير العقليّة في عملهن الخاصّ وطريقة تفكيرهن.
ندى: أنا غير متّسقة في أغلب الأحيان، وأصعب صور ضعفي هي محاولتي تحقيق التوفيق بين القول والفعل، وهذا يعني أنّني أستخدم معايير مزدوجة، ودائمًا أقول شيئًا وأفعل آخر.
سناء: لقد تعلّمتُ خلال هذا الفصل الدراسيّ كيفيّة تنظيم أفكاري من خلال التفكير الناقد، وتعلّمت تقسيم عمليّات التفكير إلى أجزاء معيّنة. ومن خلال هذه الطريقة أستطيع أن أرى بعضًا من نقاط القوّة والضّعف لديّ، وعندما لا أنظّم فكري منطقيًّا، تصبح كتابتي غالبًا تافهة، وغامضة وغير مرتبطة بأيّ شيء.
عبير: من المهمّ أن يتعرّف الإنسان المفاهيم الرئيسة عندما يفكّر؛ فإن كنت بحاجة لحلّ مشكلة ولا أدرك المفاهيم الرئيسة فيها، فلن أكون قادرة على التوصّل إلى استنتاج منطقيّ. إنّني مدركة أكثر لإعطاء المزيد من الاهتمام للمفاهيم الرّئيسة، ولقد ظهرت الحاجة إلى مثل ذلك قبل فترة عندما بدأت أمارس لعبة كرة الطاولة، فمن المفاهيم ذات الصّلة بهذه الرياضة: طريقة الامساك بالمضرب، وطريقة الوقوف، وكيفية ضرب الكرة. وقد ساعدني إعطائي اهتمامًا كبيرًا للمفاهيم الرئيسة وحفظي لها بعناية في عقلي، على التعلّم بسرعة. فمعظم الطلاب لا يدركون أهمّيّة المفاهيم في التعلّم، واعتقد، أنّ معظم الطلاب لا يعرفون ما المفاهيم، لكنّني لست منهم بالتّأكيد.
توضّح هذه الأمثلة أنّ بعض الطلاب على استعداد للاستفادة من تعليمات التفكير الناقد، وإن كان البعض الآخر ليسوا كذلك. لذا يجب أن يلبّي الطلاب تحدّي المعلّم، ويستجيبوا بشكل فاعل عن طريق التعليمات المناسبة